رسالة روسيا النووية لكوبا- إزعاج أمريكي أم تذكير بأزمة الصواريخ؟

المؤلف: عبير الفقيه10.26.2025
رسالة روسيا النووية لكوبا- إزعاج أمريكي أم تذكير بأزمة الصواريخ؟

على مسافة تقارب 150 كيلومترًا قبالة شواطئ ولاية فلوريدا الأمريكية، يتمركز منذ يوم الأربعاء الفائت، وحتى يوم الإثنين المقبل، سرب بحري روسي يضم غواصة تعمل بالطاقة النووية، وذلك في ميناء العاصمة الكوبية، هافانا. هذه المعلومة، التي قد تمر مرور الكرام في النشرات الإخبارية، تحمل في طياتها دلالات عميقة، خاصة بالنظر إلى المثلث الجيوسياسي الذي تشكله الدول المعنية، والذي يستدعي ضرورة التمعن والتحليل الدقيق، خصوصًا في ظل التطورات المتسارعة للصراع المحتدم بين روسيا من جانب، وأوكرانيا والولايات المتحدة وحلفائهما من جانب آخر، والذي بلغ أوجه في الأسابيع القليلة الماضية.

مخاوف واهتمام متزايد

في الواقع، لم يكن وصول الأسطول الروسي إلى كوبا هذا الأسبوع حدثًا مفاجئًا بالنسبة لوسائل الإعلام الأمريكية، حيث كانت وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت في الشهر المنصرم عن توجه أسطول روسي يتألف من ثلاث سفن حربية تابعة لـ "أسطول الشمال البحري" نحو المحيط الأطلسي، وذلك بغرض إجراء مناورات تدريبية. إلا أن انضمام الغواصة النووية إلى هذا الأسطول تم في وقت لاحق. ومن المحتمل أن يتوجه الأسطول بعد انتهاء مهمته في كوبا إلى فنزويلا. ومما زاد الأمر تعقيدًا وإثارة، الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الكوبي إلى روسيا، وذلك بعد يوم واحد فقط من وصول الأسطول الروسي إلى كوبا.

يبدو أن التوجس من الإشارات التي يحملها وصول الأسطول الروسي، وعلى رأسه الغواصة النووية، إلى ميناء هافانا، قد انحصر في الأوساط السياسية والرأي العام العالمي. فمن جهتهم، أكد كل من الجانبين الكوبي والروسي أن وصول الأسطول الروسي إلى كوبا يندرج في إطار التعاون الدولي بين دولتين تجمعهما علاقات صداقة تاريخية، مع التشديد على أن السفن لا تحمل أي أسلحة نووية. وأضاف الجانب الروسي أن تحركات الأسطول في المحيط الأطلسي تأتي ضمن برنامج تدريبات عسكرية روتينية، وتتم وفقًا للقواعد الدولية المتعارف عليها. وتجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي ترسو فيها سفن حربية روسية على السواحل الكوبية، حيث كانت آخر زيارة مماثلة في عام 2019، وقبلها في عام 2013.

في المقابل، اتسمت التصريحات الأمريكية بشأن هذا الحدث بنوع من الازدواجية. ففي حين يؤكد مسؤولون كبار أن واشنطن ليست قلقة بشأن تحركات الأسطول الروسي في المحيط الأطلسي وتوقفه في كوبا، وأنه لا داعي للانشغال، قامت البحرية الأمريكية في الوقت نفسه بحشد سفن حربية على طول سواحلها الجنوبية في ولاية فلوريدا، المقابلة لجزيرة كوبا.

إرسال إشارة واضحة

وبين رسائل التطمين الصادرة عن الجانبين الروسي والأمريكي، تظل تصريحات الرئيس الروسي، التي جاءت بالتزامن مع وصول أسطول بلاده إلى كوبا، الأربعاء الماضي، تثير الكثير من الجدل. فقد هدد خلال لقائه بممثلي وكالات الأنباء الدولية بنشر "صواريخ تقليدية" على مقربة من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إذا سمحوا لأوكرانيا بتوجيه ضربات في عمق الأراضي الروسية بأسلحة غربية بعيدة المدى، محذرًا إياهم من الاستهانة بردود فعل بلاده. وتأتي هذه التصريحات على خلفية التطورات المتلاحقة في ساحة المعركة الأوكرانية و"الهبة" الغربية التي جمعت شمل الولايات المتحدة وحلفائها من أوروبا وخارجها، حول قرار تعزيز دعمهم العسكري لأوكرانيا، وتشجيعها على استهداف مواقع روسية بأسلحتهم المتطورة.

هذا الأمر دفع البعض إلى الربط بين تهديدات الرئيس الروسي ورسو الأسطول الحربي الروسي، بما في ذلك الغواصة النووية، في أحد الموانئ التابعة لدولة صديقة، على بعد بضعة كيلومترات فقط من السواحل الأمريكية، معتبرين ذلك رسالة واضحة ومباشرة موجهة إلى واشنطن.

وعلى الرغم من التخوف من اندفاع الرئيس الروسي وتلويحه بإمكانية تفعيل العقيدة النووية الروسية، التي تجيز له استخدام السلاح النووي ضد أي هجوم نووي على بلاده، فإن بعض المحللين السياسيين الغربيين يقللون من شأن تهديداته، ويصفونها بأنها مجرد استعراض للقوة، بهدف تعزيز ثقة الشعب الروسي بنظامه.

وبعيدًا عن الانحيازات الأيديولوجية في الحرب الأوكرانية الروسية، وتوسع دائرة التحالفات المرتبطة بها، هناك جانب عملي لا يمكن تجاهله في تفسير دلالات رسو الأسطول الحربي الروسي في كوبا، فالوضع الاقتصادي المتردي الذي يعاني منه هذا البلد، الخاضع لعقوبات أمريكية منذ ستة عقود، يجعله يرحب بأي شكل من أشكال التعاون والدعم، سواء كان ذلك على شكل نفط أو أغذية أو أسلحة، من الدول الصديقة، وخاصة من دولة بحجم روسيا، وفي هذه المرحلة التاريخية الدقيقة.

إثارة القلق والاستفزاز

أما بالنسبة لروسيا، فإن تحركاتها الدبلوماسية والعسكرية في دول صديقة تقع في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، تعتبر بحد ذاتها بمثابة تأكيد لواشنطن على قدرتها على نقل جزء من معركتها في أوكرانيا إلى القارة الأمريكية، ولو عن طريق التهديد، وهو النهج الذي تتبعه الإدارة الأمريكية خارج حدودها. ويعد صمود أنظمة مثل كوبا وفنزويلا في وجه المساعي الأمريكية الرامية إلى تقويضها، خير دليل على استمرار الاستفزاز الروسي لواشنطن من مسافات قريبة.

ويرى بعض المحللين في هذه التحركات "مضايقة سياسية" روسية للولايات المتحدة، قد تهدف أيضًا إلى التذكير بأزمة الصواريخ الكوبية التي وقعت عام 1962، خلال فترة الحرب الباردة، عندما سارع "الاتحاد السوفياتي" آنذاك إلى دعم الحكومة الكوبية من خلال بناء قواعد صواريخ نووية متوسطة المدى على أراضيها، مما كان سيمنحها القدرة على ضرب الأراضي الأمريكية. وقد جاء ذلك بمثابة رد فعل على قيام الولايات المتحدة بنشر صواريخها في إيطاليا وتركيا عام 1961، بهدف تهديد موسكو بالرؤوس النووية.

وعلى الرغم من التفاوت الكبير في موازين القوى بين القوتين الأمريكية والسوفيتية، فقد انتهت الأزمة بين الطرفين بسحب كل منهما صواريخه، إلا أن شبح الاقتراب من مواجهة عسكرية لا يزال يتردد في الأذهان.

وخلاصة القول، على الرغم من أن وصول الأسطول الحربي الروسي، بما في ذلك الغواصة النووية، إلى السواحل الكوبية في هذا التوقيت، لا يمكن اعتباره تهديدًا وجوديًا خطيرًا، فإن الوجود الروسي، تمامًا كالوجود الصيني، في القارة الأمريكية، يظل مصدر إزعاج للإدارة الأمريكية، ويحرمها من تحقيق حلم الهيمنة الكاملة على القارة، والاقتراب من تحقيق مبدأ "مونرو" الذي طالما تبنته.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة